: محمد الشربينى بدأت علاقتى بالمسرح منذ الصغر، متابعا شغوفا ، تشغله الرابطة الخاصة التى تجمع هذا الحشد الضخم فى ذلك المكان المغلق ، وهؤلاء الذين يقفون أمامهم يجسدون فى ساعات جزءا من حياتهم أو من حيوات مصطنعة أو مستدعاه عبر الذاكرة ، وكنت أتلصص من وراء الحشد مع الرفاق عبر نوافذ صالة المسرح القومى بدمياط عدة دقائق حتى يهبط علينا فجأة طائر الرخ لكى ينزعنا ويخلع أصابعنا الصغيرة القابضة على حافة النافذة تراقب السحرة تحت الأضواء॥ كانت الدقائق تطول أحيانا ، وتظل اللحظات معنا حتى نعود الى منازلنا ، فنواصل عملية السحر على أخواتنا، فندعى مشاركة السحرة ونعلن أهميتنا الكاذبة في مشاركتهم العرض المسرحى ، بل وثنائهم على حسن تشخيصنا !وهكذا بدأت العلاقة بالتمثيل ، على الأهل أولا ، ثم على المسرح فعلا عبر مراحل التعليم المختلفة وفرق مراكز الشباب ، وكانت البداية مع مسرحى حقيقى هو الفنان أحمد جبر ، من أهم معلمى المسرح فى ذلك الوقت عام 1970، وتخرجت على يديه أجيال من محبى وعاشقى المسرح ، وكانت شخصيته التى تجمع بين المعلم والأب هى تجسيد حى لدور كبير السحرة الذى بيده عصا موسى التى ستبتلع كل ثعابين الأفك والضلال ، وكانت اهتمامات أحمد جبر بالمسرح اهتمامات تربوية ، فنحن ندرك معه أهمية العمل فى المسرح وقيمته، وضرورة هذه العلاقة الأسرية التى تجمع فريق العمل عدة ليال طويلة من التدريبات لكى نقدم خلاصتها ونتذوق حلاوتها وجمالها عبر الارتباط الحى مع الجمهور يوميا ..ومع قليل من النضج بدأت أكتب الشعر ثم القصة القصيرة ويزداد احتكاكى بجماعة الرواد الأدبية والأدباء الذين كنت أعرف معظمهم من خلال استضافتهم فى الاذاعة المدرسية بشكل مستمر ليتحدثوا عن أعمالهم وأفكارههم ويطرحوا رؤاهم عبر حوار حى يتجاوز مدة الطابور الصباحية كثيرا ، وكان يشجعنا على هذا ويقف من خلفنا مثقف كبير آخر هو طاهر رزق الذى كان يجمع مثل أحمد جبر بين الأب والاستاذ، وكان يملك أيضا عصا موسى التى لاحدود لمآربها ، وكان وقتها الكاتب المسرحى أبو العلا السلامونى يدرس لنا الفلسفة والتربية القومية ، وكان من ضمن الذين استضفناهم فى الاذاعة الصباحية مع مبدعين آخرين ، من الشعراء غالبا، والذين كانوا حريصين على هذا اللقاء مثل محمد النبوى سلامه والسيد النماس وكامل الدابى والسيد الغواب ومحروس الصياد ومحمد علوش وسمير الفيل والسيد الجنيدى وطاهر السقا وعلى زهران وغيرهم..وكتبت القصة القصيرة ، وعرضت بعض نماذجها على منضدة الرواد الأدبية ، وهى منضدة تمتد شهرتها فى شدة النقد وقسوة الأدباء على بعضهم لدرجة قد تدفع بالكثيرين الى التوقف عن الابداع تماما، واستمرت فترة كتابة القصة مع ظهور جيل متقارب من الأدباء توقف معظمه ، ولم يكن من سبيل الا الارتباط بالجيل الاسبق الذى كان أبرز ممثليه محمد علوش وسمير الفيل ومحسن يونس ومحمد الزكى وأحمد عبد الرازق أبو العلا ، وفى نفس الوقت كانت علاقتى بالمسرح تتزايد بعروض متهافتة، ولم يكن فى معظم من أعرفه من الأدباء الجدد من يكتب المسرح، وان كان يشاركنى بالتمثيل الشاعر محمد غندور।كان حال المسرح فى دمياط لايسر، وبعد تبديد مجد فرقة المسرح القومى وضمها الى قصر الثقافة، استمرت العروض المسرحية على وتيرة واحدة ، عروض يطلق عليها بحق المسرح الميت ، هى فى الغالب عروض موسمية، لاتناقش قضايا حقيقية ولا يتفاعل معها الجمهور، وتنتهى لكى يستعد أصحابها لتقديم موسم آخر ميت.وكنا ندرك أن ارتباط هذا المسرح بعروضه الميته، واقع من المستحيل تغييره بسهولة، بسبب تحوله أولا لسبيل للارتزاق بين مجموعة من المخرجين يتناوبون الاخراج، وثانيا لأن كل مخرج من هؤلاء كان يرتبط بشلة المقهى التى يسهر معها، وحينما لايعمل أحدهم فانه يأخذ معه شلته التي يحرم عليهاالعمل مع المخرج الاخر العدو المبين، ولأننى لا أريد أن أنكأ جراحا قديمة فلا داعى لذكر الأسماء، خاصة أن القضية لاتخص دمياط وحدها، ولكنها ظاهرة منتشرة عبر فرقنا فى الاقاليم منذ زمن بعيد، وهناك أيضا من يحاول تزكيتها واستفحالها من ادارات الثقافة المختلفة.وكان معظم المخرجين القادمين من العاصمة لكى يقدموا خبراتهم فى فنون المسرح لأبناء الفرقة، لا يبتعدون عن هذا المسرح الميت ، الذى لا تشغله قضايا المجتمع، بقدر ماتشغله أفكار شكلية ومسطحة عن المسرح الجماهيرى وشعبوية المسرح ..الخ هذه الطنطنات الفارغة، وهم يهربون دائما متلفحين بعباءات التراث الشعبى والأعمال التى تريد أن تقول على استحياء ضمن الرموز والالغاز والغموض الذى يكتنف معظم عروضهم ولا أقول كلها.ولا أدرى لماذا بدأت أفكر فى تجنب هذا المسرح الذى تخرج بعد مشاهدة عروضه، دون أن يضيف لك أو لخبراتك مجرد اضافة حتى جمالية، وأنا أنظر للأمر بعد كل هذه السنوات وقد انغمست فى الحركة المسرحية، وخاصة فى فرق الأقاليم، ومتابعا عبر تأسيسى لمجلة "آفاق المسرح" وإدارة تحريرها لمدة خمس سنوات، لا أجد أن الحال قد تغير كثيرا، بل زاد التدهور والتراجع والتردى فى حياتنا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكذلك أصبح المسرح ،لأنه انعكاس حقيقى لما يدور فى المجتمع ، ووصل الى ماوصل اليه من غياب كامل عن الواقع.. ولا تحدثنى هنا عن العروض المتهافتة فى مسرح الدولة ، فهى لاتشكل ظاهرة ، أو فى فرق الأقاليم ،لأن دورها و امتدادها ينحسر بسبب محدودية آيام العروض وبسبب المشكلات الآخرى التى توحشت منذ بدأت الإنهيارات تتوالى..وهذا هو مانود أن نستطرد فيه بمناسبة كتابة هذه الشهادة..،،،قد يلاحظ المتتبع للحركة المسرحية منذ بداية السبعينات غياب هذه النوعية التى تناقش قضايا الواقع أو تعتمد في بنائها على معالجة بعض الأفكار التى تهم الواقع ومشكلاته الملحة ، ويحيل بعض نقاد ومبدعي المسرح هذا الانحسار الى عدة أسباب ، أهمها : دخول ما يسمى بفنون التكنولوجيا حياة الناس واستحواذها عليهم بواسطة التليفزيون أو الأفلام السينمائية المتلفزة ، وخاصة أن هذا الفن قد أخذ من المسرح عالمه الاجتماعي وقدمه الى الناس من خلال وسائل تكنولوجية مبهرة، تستخدم الألوان والإضاءة والأزياء والحيل المبهرة .. الخ هذه الوسائل التى تتقدم يوما بعد يوم ، ناهيك عن المشكلات الأخرى المتعددة التى تقلص دور المسرح فى حياة الناس والتى جعلته يهوى فى ترد سحيق.والمنطق الذى يسوقه أصحاب هذا الرأي قد يكون صحيحا إلى حد ما ،وخاصة حين يعقدون مقارنة بين فن يصل الى الناس فى عقر دارهم ، وفن يتحمل الناس الكثير من أجل مشاهدته ، وكذلك حين يحيلون الانتصار الساحق والفوز النهائى لفنون الدراما المرئية على خصمها التقليدي والضعيف ، لعدم استطاعة الأخير الوقوف فى مواجهة هذا الفن المسيطر والمتسلط والجارف ، ولذلك فان أصحاب هذا الرأى يطلبون إهمال معالجات المسرح التى تناقش قضايا واقعية والبحث عن أشكال ووسائل تعبير أخرى من أجل الوصول الى الناس أو من أجل وصول الناس الى المسرح ، لأنه لا يعقل - فى نظرهم - أن يترك المشاهد ما تبثه الوسائل المرئية المرسلة فى أشكال براقة ومثيرة وساحرة من أجل الذهاب الى عرض مسرحى يشاهد فيه نفس القوالب الاجتماعية بهذه الوسائل البدائية التى لا تدانى بكل تقدمها التكنيكي ما وصلت إليه الوسائل الكاسحة، ولهذا فنحن نرى أن البحث جار منذ بداية السبعينات عن أشكال جديدة وأساليب مختلفة يمكن أن تجذب إليها المتفرج المنجذب الى الأجمل والأشد بريقا ، وأن المحاولات مازالت قائمة، ومازال المتفرج منصرفا عن كل ذلك !لقد نسى أصحاب هذا الرأي حقيقة هامة تتعلق بفن المسرح ، وهى أن المتفرج يشارك فى التجربة المسرحية الحية بوجوده ، وأن هذه المشاركة كفيلة بأن تجذبه من كل ما يشغله ، ولكن كيف تتم المشاركة التى هى جوهر فن المسرح ذاته ؟ والإجابة على هذا السؤال يمكنها أن تنسف الرأي السابق نسفا، لأنه كلما ابتعد المسرح عن قضايا الناس الحقيقية، وكلما أوغل فى الطقوس التراثية، وكلما أنحصر همه فى الشكل الفنى، وكلما تلفع بالتاريخ والتراث وغاب عن الواقع ،وكلما جرى وراء البهرجة الكاذبة والمفتعلة، فان حاله سيكون تماما مثل حال مسرحنا المتردي.القضية إذن هى فى كيفية تقديم فن مسرحى يناقش مشكلات حيه ، تهم الناس ، ويبحث فى ثنايا حياتهم ومصائرهم وذواتهم ، ينير لهم حياتهم بما غمض عليهم ، ويأخذ بيدهم الى طرق جديدة ، وكل هذه بديهيات آمن بها رواد المسرح ، والدليل البسيط على ذلك هو اشتياق الناس الدائم لكل كلمة تتردد عن قضية أو مشكلة حقيقية يعانون منها ، ولذا فإن معظم العروض التى تلقى تجاوبا من الجماهير هذه الأيام لابد وأنك ستجدها تبحث فى أمور حيوية وتعالج بصدق وبلا زيف حياة الناس ، وفى أضعف الأحوال ستجد أنها تلسن برأي هنا ورأى هناك ، فتلهب المشاعر والأكف ، لأن مشاهد المسرح ينتظر من يقول له: نحن معك ونشعر بك ، والمسألة لا تحتاج لأن نختبر صدق ما نقول ، لأن الأمثلة كثيرة، ولكن رجال المسرح عندنا يصرون على غياب المسرح بإفقاده دوره الحقيقى، بأعمالهم البعيدة عن هموم وأماني وأحلام الناس ، والتى يعرضونها غالبا لأهالي الممثلين والطاقم الفنى وأصحابهم !ونقاد المسرح يعترفون بضعف هذا الفن وقلة حيلته أمام البث المرئي، وهم جميعا يشاركون بوعي أو بدون فى الغياب المتعمد مع سبق الإصرار وذلك لأسباب أخرى !إنهم بما يفعلون يساعدون على إفقاد فن المسرح أهم خاصية له في معاركة الواقع والصدام الحي والمباشر معه ، إنهم يريدون أن يظل المسرح وخاصة مسرح الدولة محصورا في عروض ميتة، لأن هناك الآن من يتشيع لسيادة نمط مسرحى يدعى موت المؤلف ، ويريد أن يؤكد بالعروض التى تغيب عنها الكلمة ويسود فيها التعبير الحركى ، أن هذا هو المسرح المطلوب لمجاراة التطور فى الفنون العالمية، وهكذا لاتهتم الدولة ممثلة فى وزارة الثقافة الا بالمهرجان الذى يساعد على موت المسرح فى مصر ، وتكرس كل جهودها وملايينها فى أقامة المسخ السنوى التجريبى، أو قل التخريبى وأنت مطمئن، الذى أفسد البقية الباقية من مسرحنا ورجالاته..! ،،،
( يتبع )
سمير الفيلكاتب مصريSamir_feel@yahoo.comمدونتي :http://samir-feel.maktoobblog.com/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق