حكاية ليست للنوم
قصة / فريد محمد معوض
كان الأستاذ قد بدأ حصة الرسم ، كل شيء كان جميلا ، الشمس الرائعة تحتضن النافذة ، وتتناثر قطعا من داخل الفصل تستطيع أن ترى نخلة الحاج أحمد الشامي الخضراء ، ولو مددت رأسك قليلا لرأيت البلح الأخضر النىء ، واليمامات تدور حوله في سعادة .
كانت المدرسة هي : مدرسة بحر البقر بمحافظة الشرقية ، وكان الفصل الرابع وكانت السنة مكتوبة أعلى السبورة 1970 .
كان هواء قرية بحر البقر نقيا ، وكانت سماء بحر البقر صافية ، وكان تلاميذ الفصل الرابع قد فتحوا أمامهم كراسة الرسم ، وبدأوا في تنفيذ الموضوع الذي طلبه الأستاذ ، وأمامهم الألوان خضراء وصفراء وزرقاء وحمراء ..
كان حامد التلميذ المجتهد يرسم ورودا ويلونها ، وصابر يرسم طريقا تظللها الأشجار ، وأحمد يرسم حديقة جميلة وعلى رأسها ساقية ، ولأنه لا يستطيع أن يرسم أنغام الساقية الجميلة فقد كتب فوق الساقية "نغم جميل جميل جميل" ..
كانت هديل البنت الرائعة قد رفعت العلم على صفحة كراستها ، وكان عنوان الدرس قد نسيه الأستاذ بالأمس على السبورة – الإصرار- فجأة أغارت طائرات العدو على المدرسة فقتلت الوردة ، وقطعت الطريق المظلل بالأشجار ، وخربت الحديقة ولم يبق بين الحطام غير العلم المرفوع على الصفحة في كراسة هديل وكلمة "الإصرار" التي كتبها الأستاذ بالأمس .
- إنها قصة الأطفال الصغار .
وفى كل مرة – يا صغيري- أحكى لك حكاية يعقبها النوم وهذه الحكاية لا يعقبها النوم مباشرة .. فأرجوك لا تنم الآن يا حمام قبل أن تنظر إلى كلمة "الإصرار" التي نسيها الأستاذ بالأمس على صفحة السبورة السوداء .
"تمت"
سر فرحة مصطفى
قصة / فريد محمد معوض
الولد "مصطفى" يبدو رائعا اليوم ، وجهه دائم الابتسام ، يجلس في الفصل مترقبا الدرس ، ينظر إلى السبورة في انتظار بزوغ التاريخ وظهور الأحرف ..
صحيح أنها عادة مصطفى في الإقبال على الدرس بفرح وسعادة ، لكنه اليوم أكثر فرحا وسعادة ، ظن أصدقاؤه أن هناك خبرا سعيدا في عائلته .
وقال آخر : ربما حصل على مصروف زائد .. أو لعبة جديدة ، لكن الجميع يؤكدون أن مصطفى اليوم مختلف ، مختلف جدا ، وجهه مشرق ، وعيناه مبتسمتان ، وقلبه يسع الدنيا والعالم .
بعد انتهاء الحصة كان السؤال ، وبعد انتهاء السؤال كان الجواب ، والجواب كان كلمة واحدة قالها مصطفى : السلام
اعتاد مصطفى وهو يسير في الشارع أن يلقى على من يقابله السلام ، لكن الكبار لا يردون ، ينظرون ناحية الصوت ، والصوت صغير وصاحبه صغير ، وكأن السلام لا ينفع من مصطفى ، حتى الذين أنصفوه كانوا يردون وكأنهم يترددون ، أو يمنحونه نصف سلام ، لكن اليوم كان شيئا آخر ، فأثناء ذهابه إلى المدرسة مر على رجل طيب ، بادره مصطفى :
- السلام عليكم
ولدهشته كان الرد قويا وجليا ورائعا :
- وعليكم السلام ورحمة الله .
ملأ قلب الولد مصطفى فصار أكثر حبا وصفاء ، وعاود من جديد إلقاء السلام على رجل آخر ، وكان الرد رائعا كذلك ، وهكذا طوال سيره يلقى "مصطفى" السلام ، والدنيا ترد على سلامه بأحسن سلام ، لذا فإنه سعيد بحق ، ما أجمل أن يرد الناس على السلام بسلام ، أما السلام من طرف واحد فكيف يكون سلاما ، هذا يا أصدقائي ما حدث بالتمام.
وهنا أدرك الجميع سر فرحة مصطفى وعقدوا العزم على إنشاء السلام .
(تمت)
حمامة فوق الصفحة
قصة / فريد محمد معوض
كان أحمد قد فتح الصفحة الأولى من كراسة الرسم وراح يتأمل في الحمامة البيضاء التي كانت في قلب الصفحة تنظر في وداعة كان يتأملها جيدا حين طارت لأعلى وحطت على صدر الصفحة الثانية .. راح يحدثها أحمد :
- انظرى إلىّ يا حمامة .. ثم انطلقي مع السلامة
وأشار لها فانطلقت من جديد .. ظهرت في أعلى الصفحة الثالثة وفى فمها غصن زيتون .
تعجب أحمد كيف استطاعت الحمامة أن تمر عبر الصفحات وتتقلب وتظهر من زوايا مختلفة .
- كيف استطعت يا حمامة ؟!
ثقلت رأس احمد على الصفحة وأغمض عينيه ورأى الحمامة وهى ترد عليه
- بك يا أحمد عبرت من صفحة إلى صفحة .. أنت الذي رسمتني في الأولى والثانية والثالثة .. أنت الذي منحتني غصن الزيتون .. ما أروعك ..!! لكنك ستكون أكثر روعة إن أعطيتني حجرا أحمله بقدمي وأرميه متى شعرت بالخطر .. غصن الزيتون وحده لن يمنع عنى الخطر
حين فتح أحمد عينيه أمسك الفرشاة وراح يعطى كل حمامة حجرا .. حتى يصبح بوسعها أن تنتقل بين الصفحات بلا خوف ووضع بجوار كل حمامة بضع أحجار حتى تأخذ من الأحجار ما تحب .
ومنذ تلك اللحظة والحمامة تنتقل بين صفحات الكراسة .. تستجيب في كل صفحة لألوان أحمد الزاهية بالفرح والحياة .
تمت
قبل الدخول
قصة / فريد محمد معوض
فقط عيسى لم يفعل مثلنا ، لم يلق حقيبته ، ولم يتجه الى كوم السباخ المعتق خلف مدرستنا ، كان عيسى ينظر الى الكوم فى اشمئزاز ، والذباب فوقه يطن ، والدبابير تحوم بلا هوادة .. لم تفلح شكاوى الناظر فى إزالة الكوم فهو باق دائما ، يهبط ويعلو حسب الأخذ والإضافة .
جاء عيسى من بعيد مع المهجّرين الذين جاءوا من مدن القناة بسبب الحرب .. لم يكن يرتدى مريلة مثلنا ، كان له قميص وبنطال ، ونظارة تلمع في وجه الشمس ، الآن التففنا حول كوم السباخ ، يرقبنا عيسى بدهشة ، ونحن ننتشر حول الكوم ، قبع كل واحد منا بلا صوت ولا حركة ، الآن ستحط الدبابير السوداء ، الواحد منها مثل الطائرة ، ذات الجناحين وبطنه الممتلئ يشبه بطن الطائرة ، وله أزيز يشبه أزيز الطائرة بالضبط .. السوداء بالذات صهيونية ، نحب صيدها ، وتتناقص لكنها تعود وتكثر من جديد فى اليوم التالى .
ما زلنا نترقب ، ما زال كل واحد فى مكمنه ، وعيسى ما زال يرقبنا ، رفض أن يشاركنا اللعب ، قال:
- لماذا أوسخ ملابسى .. وقال أنه ليس فلاحا مثلنا .
قلنا له :
- إننا نصيد الطائرات الإسرائيلية أو نجبرها على الفرار ، وراح كل واحد يعد صيده
"سعد" صاد ثلاثة ، و"محمد" صاد اثنين .. وكنت قد لبدت فى مكان مناسب ، ومددت يدى فى حذر، وفى لحظة خاطفة كان الدبور الأسود فى يدى ، هلل عيسى فجأة وقال :
- برافو
كانت فرحتي بهتافه أكثر من فرحتي بصيد الدبّور ، وزادت دهشتي وأنا أراه يضع حقيبته على مقربة من كوم السباخ ، أفسحت له مكانا للقنص ، ولم نسمع له بعد ذلك صوتا ، انشغل كل واحد منا بصيده ، وفجأة انتفض عيسى من مكانه وقال :
- أنا أكسب
كان قد أمسك بخمسة دبابير ، وربط الأجنحة بأحد الخيوط ، وكانت تصدر صوتا مزعجا ، قلنا :
- كيف يا عيسى استطعت القنص وهذه أول مرة ؟!
شردت عيناه وهو ينظر بعيدا وقال :
- الدبابير السوداء أجبرتنا على الهجرة .
ولم يمهلنا جرس الدخول كى نعرف أكثر فقد كنا ننتظر حكاية جميلة قادمة من بعيد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق